جوهر التحضّر: الإنسان
في حياتنا اليومية كثيرًا ما نعبّر عن الأشياء التي تلقى استحساننا باستخدام مفردة "حضارة أو تحضّر"، فمثلًا عندما نرى ناطحة سحاب أو متحفًا فنيًّا نقول "حضارة"
نرى مصانع وأبنية شاهقة، منتجات وسلع كثيرة حتى لو كانت غير ضرورية .. نقول "حضارة"
نرى سلوكًا معينًا، طفل يلقي القمامة في المكان المخصَّص لها، فنقول "حضارة"..أو "تحضّر"
كل هذا متداول ومفهوم .. لكن ما هو تعريف الحضارة؟!.
في الصفوف المدرسية تكرر معنا تعريف التحضّر، وهو باختصار هجرة الناس من البادية إلى المدينة، لكن هل تكفي الهجرة المكانية ليصبح الإنسان أو المجتمع متحضرًا ويكوّن "حضارة"؟، في الحقيقة هذا التعريف ليس كافيًا، فالبادية التي هجرها الناس ليست مرحلة تاريخية أو موضعًا جغرافيًا فحسب، قد تكون البداوة في منزل فاره مليء بالأدوات الحديثة، وقد يكون "البدوي" يرتدي أحدث الماركات، ويتقن عدة لغات، أو على الأقل يستعمل كلمة من هذه أو تلك هنا أو هناك، من أجل الظهور بمظهر الحضارة، لكن ذلك لن يغير شيء من حقيقة البداوة في أعماقه، فهي خيار نفسي واجتماعي، خيار أن تكون على الهامش، خيار ألّا تُنتج شيئًا، أن تكون محض مستهلك.
إذن مفهوم التحضّرهنا لا يقتصرعلى الهجرة المكانية، بل يتعداها إلى هجرة أخرى، لا يُشترط فيها أن تغادر مكان وجودك، هي هجرة "ذاتية" مستمرّة نحو قيم عليا يجب أن يُقام عليها المجتمع، تبدأ بهجر كل التصرفات السلبية التي ترفضها الفطرة السليمة ولا يقبلها العقل، إلى اعتناق كل فكرة وقيمة وخُلق سليم وطيّب، وغرسه بالعقل الجمعي ليُصبح من عادات المجتمع وتقاليده
والعقل الجمعي عندما يكون متحضّرًا بهذا المعنى، فإن العدالة الاجتماعية ستكون حاضرة، كذلك مستوى التعليم سيكون مرتفعًا، وسنرى تحسّن في الخدمات الصحية، ومستوى الصحة النفسية، إضافة إلى انخفاض معدلات الجريمة وتجفيف منابعها، وتحقيق التكافل والتماسك الاجتماعي، ستذوب الـ"أنا" في الـ"نحن"، بل نتعدى الـ"نحن" المحصورة بزمن معين لتصل إلى كل الأجيال القادمة
وانعكاس كل ذلك يظهر في سلوكيات صغيرة، لكنها عميقة جدًا تصب في بناء الإنسان، وتهيئة بيئة مناسبة يسخّر كل الوجود لخدمته، بيئة لا يكون فيها التطاول في البنيان على حساب تفكك الإنسان وظلمه، بالضبط كما قال جورج أورويل "من المستحيل أن تؤسس حضارة على الخوف والكراهية والقسوة، فمثل هذه الحضارات إن وجدت، لا يمكن أن تبقى"
وتُعرف الأمور بأضدادها كما يُعرف التحضّر بأنه عكس "الجاهلية" بكل القيم التي كانت سائدة في تلك المرحلة من التاريخ، عكس "العبودية" التي تقيّد الإنسان، وتبعده عن حقيقته، وعكس "العنصرية" ، التي هي في جوهرها تعلّق بمظهر خارجي لدرجة أن تجعل الغلاف أهم من أي محتوى، تجعل العنصر الذي تنتمي له، صنمًا تُدين له بالولاء على حساب قيمة أخرى أعلى وأهم!
في عصرنا الحالي وبحكم تقليد ثقافة القوي المنتصر، فإن مفهوم التحضّرأشكل علينا، فأصبحنا نستعير ظواهر حضارة أخرى لا تشبه مجتمعنا ولا هويتنا الذاتية، لنبلغ تحضّرها، لكن في الحقيقة هذا عين الانهزام وربّما قلة الوعي بإمكانية ما نملك لصنع حضارة خاصّة، مختلفة نعم لكنها لا تقل عظمة وأهمية من الحضارات الأخرى، بل ربّما تتعداها كما فعلت قبل ألف وأربعمائة سنة
لأجل ذلك نؤكد أن الحضارة هي وليدة المجتمع، تنبع من قيمه وثوابته وهويته الذاتية، يساندها الحُكم والتعليم، وهي بطبيعة الحال عملية طويلة ووعرة، وثمارها لن يحين موسم حصادها إلا لاحقًا، وبما لن يشارك في الحصاد كثيرون ممن بدؤوا الرحلة، لكنها الغايات العليا .. والإيمان