*الحربُ مقبرة الحياة*
هو ذلك خيالُها الذي اعتادت عينايَ على رؤيتهِ كلَّ ليلة.. كانت تحُطُّ كملاكٍ في كلِّ غرفة.. تدخُل إلى غرفةِ أخي الأكبر فتمسحُ بكفها الحانيةِ على جبينهِ.. لتُزيل عنه ثقل الأيام.. ثم تطير كحمامةٍ بيضاء إلى غُرفةِ أختيَ الصغرى و تعيدُ وضع الغطاء ِعلى جسدها الغضِّ الضعيف فقد كانت كثيرة الحركة... ثمَّ تأتي إلى غرفتي لتتأملني و أكادُ أسمع تمتماتٍ تخرجُ منها أظُنُّها تدعو في سرِّها.. كانت عادتها هكذا..
دمشقُ في ذلك الصباح كعادتها مشرقة ٌ تأذن بقدومِ يومٍ جديد فتستيقظُ العيون الناعسة من ضوء الشمس المتسلل من بين الستائر... نسمع زامور الحافلة المدرسيَّة الذي أتى لاصطحاب الأطفال... أرى بائع خُضرةٍ يصرُخُ بأعلى صوته لجذب انتباه الزبائن... و في المقهى الذي في آخر الحي صوتٌ شذيّ ففي كلِّ صباح اعتادَ صاحب المقهى أن يبدأ يومهُ بفُنجانٍ من القهوة و ذلك الصوت الفيروزيّ في إحدى أزقةَ دمشق العتيقة...بائع الفول و الطعميّة يستقطبُ زبائنه بوضع أغنية طربيّة و ابتسامةٍ عفوية... كانت حياتنا هكذا...
و عند الواحدة ظهراً تبدأُ العودة من الأعمال و الأشغال... فتزدحمُ الشوارع بسياراتِ الأجرة و حافلات النقل العمومي وأصحاب السيارات الخاصة... نرى بائع الورد على كلِّ إشارة يلوح بيده بقصد عرض سلعته و ترمُقه عيونُ النّاس من خلف زجاج السيارة غير آبهين... و في كل بيت تجتمع العائلةُ على مائدة الغداء كلًًًٌّ منهم يحدّث الآخر عن يومِهِ... حتى يبدأَ نزول الأولاد إلى الشوارعِ للَّعبِ بالكرةِ فتتعالى أصواتهم و ضحكاتهم مالئةً كل أرجاءِ الحيًًِّ... كانت حياتُنا هكذا...
و المساءُ الدمشقيّ هو مساءٌ ساحر... العيونُ العاشقة تلتجئُ إلى السماءِ لتُحاكي نجوم القبة السماويّة... و العيونُ الباكية تلفُظُ كلَّ كدرٍ في جوفِها...و القلبُ المُترعُ بحكايا يرويها لأضواءِ المدينة المعشوقة التي غارت من ياسمينِها المُدُن... تلك المدينةُ الحزينة التي لم تعرف للدموعِ طعماً.. أصبحت و الآن للألمِ أسيرة...
لكن!! ما الذي بدّد المشهد هذا هكذا؟! كيف يمكن لهذه اللوحةِ المشبعةِ بكلِ ألوان الحياة أن تتحول إلى هذه السوداويةِ القاتمة...فالبيت قد فقدَ حنانها.. و الشمسُ لم تعد تتسلل لتوقظَ العيون التي لم تعد تَصلُ لها أشعة الشمس...و بائع الخُضرةِ لم يعد يصرُخُ لجذب الزبائن... بل أصبح صراخُه وليداً للقهرِ الأبديِّ... الذي سيلازمه على بيته المُهدًًًّم... و أطفالُهُ الجياع... و دكانِهِ الخالي إلاًًَّ من الصناديق الفارغة...
فبمُقارنةٍ بسيطة لكلتا الصورتين... فالأرض لم تَعُدِ الأرض نفسَها... نخَر الحزنُ تلافيفها...هُمشت ملامحها الفاتنة بدعوى الحفاظ على الأرض..و الإنسان لم يعدِ الإنسانَ ذاتهُ...فالكسرُ الذي أصابهُ لن يُجبر.. و الجُرحُ الذي يصيبُ الفؤاد صعبٌ أن يندمل...
"و إن كانت الحرب مقبرة الحياة... فالحياة المستمرة ستكونُ كفناً لهذه الحربْ.