Planning Meeting
36

صفحات الانتحار

تآملات في فهمنا للتواصل الاجتماعي

هيَ لَم تأتِ لتصبحَ إضافة غير محورية إلى حياتنا، بل جاءت واقتحمت حياتنا اليومية وحشرت أنفها في أدقِ التفاصيل. فلم تعد تخلو جلسة عائلية منها، ولا رحلة مدرسية، حتى السفر إلى ما وراء البحار أصبحَ مرتبطاً بها ويتوج بلمساتها.

  

غيرَت مفهوم الشهرة، والريادة، والترفيه، والتواصل. ولم يسلم العمل من لمساتها السحرية، فأصبحت وسيلة لكسب المال. فترى ذاك يتقاضى الآلاف على صورة نشرها في "انستغرام"، وتلك تتقاضى نقوداً بسبب فيديو "سنابشات" تتحدث فيه عن منتج تجميل. أصبحَ ارتداء الملابس الجميلة والتقاط الصور عمل يومي للبعض تحتَ مُسمى "فاشنيستا"، وقضاء ساعات أمام "Live" الفيسبوك عملاً تحت مسمى "مؤثر اجتماعي". 
 
أصبحت صوت من لا صوتَ له، وبعض الأصوات ليسَت سوى صراخاً لا هدفَ منه ولا معنى له. حسنت جوانب حياتية كثيرة بشكل لم يكن لأحد أن يتخيله، ولكنها قامت أيضاً بهدم وتشويه جوانب أخرى كثيرة. لطالما نظرتُ إليها كوسيلة انتحار غير تقليدية يتبعها الكثيرونَ دونَ أدنى علمٍ منهم، يلقونَ بأنفسهم إلى التهلُكة ولا يتوانونَ عن تكرار هذا الهلاك "الإرادي" بشكل شبه يومي، وبشكل يتكرر في اليوم الواحد لمرات كثيرة وكثيرة.

 
انتحار يستهدفُ الروحَ والعقلَ والقلبَ قبلَ الجسد، أساسُهُ في العمل قتل الإرادة والهمة، وخنق الأخلاق، وتدمير الوقت، وتشويه مفهوم الحياة. وفي النهاية، يترك الإنسان جثة متحجرة ذات دقات قلب تنبض لأنَ هذا واجبٌ عليها وتتنفس لأنَ هذا ما وجدت نفسها عليه. فلم نعد بحاجة لابتلاع كمية هائلة من الحبوب لننتحر، كما أن إلقاء الجسد من أعلى جسر أصبحَ "موضة" قديمة، وتصويب السلاح إلى الرأس لم يعد ذو فائدة. وجود العديد من تطبيقات التواصل الاجتماعي على الهاتف يفي بالغرض!

 

فيها نجدُ صفحاتٍ كثيرة تنقل أخبار لا هدفَ منها ولا داعٍ، زواج فلانة من فلان، وطلاق فلانة من فلان، وسقوط "فستان" الفنانة الفلانية، وغيرها من الأخبار التي تتفاجئ بوجود ملايين المتفاعلين معها. وتجد تلكَ التي تختص بالاعترافات والاستشارات والتي غالباً ما تنسف الكثير من القيم المجتمعية والأخلاق التي تربينا عليها وتركز بشكل مخيف على مواضيع الزواج والطلاق والخيانة، والتي تقتل الرغبة في الارتباط وتجعل من الزواج "بعبع" في نفوس الجيل الشاب. 
 
وأما تلك التي تختص بالأسئلة، تجد في التعليقات كل شيء ابتداءاً من السخرية والشتم والقذف ومحاولات "التنهيف" الفاشلة، ولكن لا تجد جواب السؤال المطروح. السخرية من الآخرين أصبحت أمراً يتم ببضع ضغطات على الهاتف أو الحاسوب بلا حسيب أو رقيب، وكذلك الشتم والقذف الذي كان سابقاً أمراً ذو شأن عظيم تتدمرُ بسببه علاقات عائلات بأكملها ولا يقوم به إلا الجاهل عديم الأخلاق وذو الصفات المكروهة في المجتمع.
 
وتجدُ في بعض الصفحات الساخرة ما يضحك القلبَ ويقتلهُ في آنٍ واحد، تجدُ ما يضحكك على البطالة والواسطة والدراسة الجامعية والسخرية من الهوايات والطموحات والتوجهات والقراءة، تضحكُ عليها ولا تعرفُ أنها زرعت في عقلكَ الباطن بذرة سوداء من السلبية والتوكل الأبله واللامبالاة. تقتنعُ بسببها أنك لن تجد عملاً لأنَ الكل يجده بالواسطة، ولن تتوفقَ في زواج لأنَ لا أحد وجدَ التوفيقَ فيه، ولن تنجحَ في دراستك لأنَ أسئلة الامتحانات "مريخية" وأن القراءة ليسَت سوى لأصحاب الفراغ، والهوايات رفاهية لا نقدر عليها في عالمنا العربي.
 
هيَ ساعات يومية بينَ أكناف هذه الصفحات التي نصلُ إليها في كل وقت بنقرة زر، تزرعُ في العقل والروح والنفس توجهاُ نحو الاتكالية واللامبالاة وهدر الوقت، وتنسفُ قيماً اجتماعية وأخلاقية.. هي ساعات في سبيل قتل النفس. ساعات نقضيها في الهرولة بينَ صفحة فلان وفلان، لنرى أينَ سافرَ هذا، وعلى أي شهادة حصلت تلك، وأين اُلتقِطَت هذه الصورة، وأي سعادةٍ يعيشها ذاك، حتى ينقطع النفس من الهرولة القاتلة. لا غنى عنها بالتأكيد، ولا حياةَ تستمرُ بدونها، هذه المواقع تأصلت في الحياة وضربت جذورها حتى أعمقِ نقطة فيها.. لكنها ثمار قد تكون قاتلة أحياناً.. فاختر منها ما لايقتلك.