لأنك أعجوبتنا
منذُ لحظاتِ الرّحيلِ وأنا أبحثُ عنْ كلمةٍ تصفكَ ولمْ أجدْها. حتّى حدوثِ تلكَ الأعجوبةِ بدخولي عالمَ التّحديّاتِ للقراءةِ لتكونَ روايةُ الشّهرِ هيَ روايةُ "أعجوبة".
تتحدّث تفاصيلُ الرّوايةِ عنْ كافّةِ لحظاتِ الألمِ، الفرحِ، التّعبِ، التّشتّتِ، الضّحكِ وغيرِها الكثيرُ من المشاعرِ الّتي انتابتنا لحظةَ سماعِ والدينا بأنّنا سنرزقً بأعجوبتنا أخيرًا. بعدَ انتظارٍ دامَ ما يقاربُ عشرَ سنواتٍ، ستحظى العائلةُ بمولودها الذّكرِ! جئتَ أنتَ وأنتَ محمّلٌ بكافّةِ تفاصيلِ الاختلافِ عنْ غيركَ لتخبرَ العالمَ بأنّكَ كما ذكرَ غلافُ الكتابِ "ولدتَ لتكونَ فريدًا...لا تحاولْ أنْ تكونَ عاديًا".
أتذكّر بأنّ ذلكَ الدّولابَ الّذي رسمناهُ معًا لعددِ العمليّاتِ الجراحيّةِ الّتي قمتَ بها قدْ تجاوزَ رقمَ عشرونَ وأكثرْ، خاصّةً بعدَ خوضِنا لذلكَ الصّراعِ الّذي تسبّب في انصهارِ جلدكَ عندَما تعرّضت لحادثةِ الحريقِ منْ صنبورِ المياهِ السّاخنِ فقطْ لأنّك لمْ تعدْ تشعرُ بهما لأنّ كافّة خلاياكَ العصبيّة لا تصلُ إلى أسفلِ قدميكَ، وقرّرت المكوثَ على هيئةِ فتحةِ تتسلّل منْ خلايا العمودِ الفقريّ لتحدثّ لكَ حدبةً مثلَ "أحدبِ نوتردام".
وربّما كانتْ أصعبَ لحظاتِ الحياةِ خاصّة على أعتاقِ والدتي هيَ لحظةَ قرارها الّذي دامَ بينَ خيارينِ لا ثالثَ لهما، فإمّا أنْ تقرّرَ الْحفاظَ والخوضَ في ماهيةِ الْخفايا داخلَ هذهِ الأعجوبةِ، أوْ أنْ تقرّرَ التّخليَ عنْ أعجوبتنا القادمةِ. أرى أنّ والدتي كانتْ أشجعَ شخصيةٍ على هذهِ البشريّةِ حينَ قرّرتِ الحْفاظَ بجنينها لتكتشفَ خبايا الأعجوبةِ.
أذكرُ أنّ قضاءَ الوقتِ في بيتِ الجدِّ والجدّةِ كانَ هوَ الأصعبَ لأنّه تمامًا كما هوَ حالُ "فيا" في الرّوايةِ كانَ حالُنا أنا وَسوسنْ، فلمْ نعدْ نرى والدينا سوى للحظاتٍ قليلةٍ قبلَ مغادرتنا المنزلَ لنذهبَ إِلى المدرسةِ. ولكنْ، كانتْ أجملُ اللحظات التي عشناها لحظةَ عودتهمْ وأنتَ بينَ أيديهمْ ليخبرونا بأنّ الضّوءَ قدْ عادَ أخيرًا يتخلّل ثنايا البيتِ، قترانا نجتمعُ معًا لنرسمَ الظّلالَ بعدَ انقطاعِ الكهرباءِ، ويبقى لتناولِ البوظةِ العربيةِ مذاقها الخاصّ في أذهاننا فقطْ عندَ انقطاعِ الكهرباءِ.
ولا يستطيعُ شخصٌ عاشَ تفاصيلَ خاصهً بهِ في عالمكَ سوى أنْ يتحدّثَ عنْ بساطةِ فكرةِ فقدانكَ للقدرةِ على المشيِ، وكيفَ أنها ليستْ بحجمِ قضيّةِ اندلاعِ حروبٍ، وأنّها مجرّدُ خاصيّةٍ تختلفُ بها عمّنْ همْ حولكَ، والأفضلُ ربّما هوَ أنّ الله وهبكَ الذكاءَ الخارقَ لتتفوّقَ في الاختبارِ الّذي قامَ بهِ الأطباءُ لحظةَ ولادتكَ ليطمئنّ قلبهمْ بأنّكَ تعاني منْ إعاقةٍ حركيةٍ في خلاياكَ لا غير. وربّما هوَ الجزءُ المريحُ منْ خفايا أعجوبتكَ أنّ الحركةَ هي فقط العائقَ الوحيدَ ومعَ ذلكَ أثبتَّ العكسَ.
ومنْ أجملِ أعجوباتكَ هيَ لحظةُ تمرّدك تلكَ على معلمةٍ قرّرت ذاتَ يومٍ الصراخَ والتوبيخَ لتتفوّهَ بأبشعِ الكلماتِ "اللي زيّك بضلْ بالبيتْ أصلا لا بيدرس ولا بشاركْ بالحفلات السنوية للمدرسة"، بعدها قرّرت أنْ تريَها أنّ عجلاتِ كرسيّك هيَ الّتي ستصلُ بكَ إلى أعلى خشباتِ المسرحِ، وكانتْ تلكَ أولى لحظاتِ حفظكَ لآيةِ الكرسيّ لتجعلَ منْ كافّةِ الجماهيرِ تنبهرُ منْ جمالِ صوتكَ في تلاوةِ القرآنِ الكريمِ بما فيهمْ نحنُ؛ فكانتْ أجملَ المفاجآتِ حتّى أصبحنا حينَ نتجاورُ في الأسرّةِ تتلوها لنا عندَ النّومِ.
لحظاتُ الصّباح الباكرِ في تلكَ الأيّامِ التي كنتَ ما تزالُ متواجدًا فيها كانتِ الأروعَ، فمنْ صراخكَ بأنّكَ أكبرُ منْ تواجدكَ بينَ أربعةِ حيطانٍ فقطْ تستمعُ إلى تفاهاتٍ تنبثقُ منْ فمِ الأساتذةِ حسبَ وصفكَ، إلى تسريعكَ عمليّةِ التناوبِ في الدّخولِ إلى الحمّامِ لتقومَ بتصفيفِ شعركَ بالجلّ لتبدوَ أكثرَ وسامةً، وصيحاتُ زملائكَ الذينَ ينتظرونكَ في الخارجِ ويتقاتلونَ بينهم منْ سيقومُ بسواقةِ عربتكَ الجميلةِ، وصياحُ والدنا منَ الغرفةِ الأخرى لتتوقّف عنِ النّدبِ والذّهابِ للمدرسةِ دونَ اضطرارِ أمّي لمكالمتهِ فورَ وصولهِ المكتب، وصراخي أنا وسوسن ونحنُ نحاولُ إقناعكَ بأنّ المدرسةَ منْ أروعِ الأماكنِ (وأعترفُ بأنّنا كنّا نكذبُ لأنّنا كنّا نريدُ منكَ أنْ تكونَ الشّخصَ الأفضلَ، لكنّها فعليًا مكانٌ مملٌ لا مفرّ منها).
حتّى وصلنا لأكثرِ موقفينِ كدْنا نخشاهم طولَ العمرِ، سأتحدّثُ عنْ أجملِهم أولاً؛ عندما بلغتَ عمرَ المراهقةِ وأصبحتَ تشعرُ ببعضِ الاستقلاليةِ والتّحرّر مثلَ منْ همْ في سنّك، بدأتَ تتواردُ إلى شارعنا لكيْ تصلَ إلى مدرسةِ الإناثِ المجاورةِ للمنزلِ،وتحدّثنا عن تلكَ الفتاةِ جميلةِ المنظرِ ذاتِ الشّعرِ الأسودِ الجميلِ الطّويلِ اللامعِ وعينيها اللتينِ كانتا بلونِ زيتِ الزيتونِ فورَ خروجهِ منَ المعصرةِ، بدأتَ حينها تسألنا عمّا تحبّ الفتياتُ؟ ماذا تفضّل أنْ تكونَ شكلُ الهدايا؟ ما هوَ أكثرُ الطّباع التي تحبّها؟ ما هوَ العطرُ المفضّلُ لهنّ؟ وغيرها الكثيرُ التي باتَ بعدها اهتمامكَ واضحًا بالأنثى، وأنّ هذا الاهتمامَ أصبحَ أعمق. وكنّا نخشى إخباركَ بأنّهُ سيبقى مجرّدَ حبٍ للذّكرى لا أكثرَ.
أمّا الموقفُ الثّاني، هوَ بلوغكَ عامكَ السّادسَ عشرَ، لأنّ ذلكَ هوَ الكابوسُ العائليُّ حسبَ وصفِ الأطبّاءِ لحظةَ ولادتكَ، وأنّكَ لنْ تعيشَ طويلا، وإنْ عشتَ لنْ تتجاوزَ عمرَ السّادسةَ عشرةَ. وحدثَ ما كنّا نخشاهُ جميعًا...أنْ يختفيَ بريقُ هذهِ الأعجوبةِ. ولكنْ، بعدَ مرورِ الأيّامِ الثّلاثِ الأولى منَ الفراقِ وابتعادِ جميعِ أشكالِ النّفاقِ الاجتماعيّ بإبرازِ مشاعرِ الحزنِ والألمِ كانتْ هناكَ عبارةٌ سأقتبسها منَ الرّوايةِ التي كانتْ مصدرَ إلهامي لكلّ ما سطّرتْ منْ أحرفٍ أودّ أنْ أشكركَ "على كلّ ما منحتهُ لنا... على وجودكَ بحياتنا... لأنّك أنتَ...".
لأنّكَ أنتَ، جعلتَ لحياتنا بريقًا بعدَ العتمةِ القاتلةِ، وجعلتَ لكلِّ ما هو حولنا نكهةً كنّا نستشعرُ بها في طيّات تعابيرِ وجهكَ وضحكاتكَ عندما تُغلق جفنُ العينِ وتبدأُ الدموعُ بالانهيارِ. لأنّكَ أنتَ.....
أعجوبتنا البرّاقة!