المدرسة العربية، إشكاليات التنمر.
عُمر تلميذ في الصف الرابع الإبتدائي في مدرسة تسمى "بالمدرسة العربية" سُمِّيت بهذا الاسم لأنها تُدَرس لتلاميذ من جميع الجنسيات والأوطان المختلفة، يبلُغ "عُمر" من العُمر عشر سنوات، يحب زملائه كثيرًا ودائما يحكي لوالديه عنهم وهم "جومانا" لبنانية الجنسية وهي تَسكُن في منزل بجواره وصديق اسمه "علي" وهو سوداني الجنسية وآخر يُقال له "عدنان" وهو من دولة اليمن وزميل آخر مصري الجنسية يُدعى "محمد"
كان الوالد كعادته يقلب صفحات الجرائد لكن تقلبات وجه الأم من القلق باتت تتبعثر من وجنتيها حتى قالت:
لقد تأخر عن عادته؟
فرد الأب بهدوء يطمئنُها:
ربما تكدس الشوارع كعادته هو السبب.
صوت طرقات الباب كانت قاطعة لقلق وهدوء الأبوين، ثم انجلى صوت المُتأخر وهو يلوح بيده قائلًا:
أمي لقد أتيتُ،
فتقابلا العناق واشتد على غير عادته، والتف بنيان الابن لتتحمل أُمه آلام حقيبته عن كتفيه المهرولتين تعبا، وباتت ملامح الطفل يظهر عليها الاندهاش شيئًا فشيئًا عندما رأي والده يراقبُه في صمتٍ.
فصاح بصوت أعلى من سابقه:
أبي! أنت هنا! ألم تذهب إلى العمل؟
أجاب المُتسائل بعد عناق طَالَ كعادته.
لا يا عُمر لم أذهب، أنا مُرهق اليوم، ولكن أخبرني كيف حال يومك في المدرسة؟
إنه يوم جميل يا أبي، ولكن حدث عدة أمور أريد أن أسردهُا لك.
فقاطعهُما صوت الأم يعترض
لا بل نُبدل ملابسنا أولًا ثم نأكل ثم نراجع ما درسناه اليوم ثم تسرد لنا ما حدث لك ثم … صوت صراخ بكَّاء يُدوي المكان، فالتف الثلاثة إلى نداء الرضيعة وذهبت الأم بلهفة تَحملُ صغيرتها وتلاعبُها حتى سكنت حركتها مرةً أخرى.
وبعد ما يقُرب من ساعةٍ مضت
لقد انتهينا من الرياضيات واللغة العربية.
نعم يا أمي، وانتهي دورك يتبقي اللغة الإنجليزية وأنت تعرفين أنني أحبها ولا أحتاج لمساعدة.
بينما كان صوت الأب ينخفض عندما يتذكر أن صوته المرتفع وهو يلاعب صغيرته يضايق كَبيره ويفقده تركيزه في مذاكرته.
مرت نصف ساعة حتى جمع "عُمر" أدواته وجهز حقيبته لليوم التالي، ونادى الأب ابنه وجاءت الأم معه وقال:
هيا يا عُمر احكي لنا ما الذي حدث اليوم. وأكمل يتساءل هل الأمر يختصُ بالزملاء أم الأساتذة؟
فأجاب الابن بتفوه:
نعم ولاسيما الزملاء
كيف؟
وبات الشغف على وجه الأم وهي تُكرر سؤال الأب.
كيف؟
فبدأ عُمر يتمتم حتى علا صوته وبدأ صداه بالوضوح وقال:
كان المُعلم باسم يشرحُ لنا درس اللغة العربية وكان بعنوان "الكفاح" وكانت قصة الدرس .. رجل مُكافح يعمل هو وأولاده الثلاث في مزرعة للدجاج،
وبدأ الشغف يندثر من عيني الوالدين وقالت الأم وهي تبتسم ويداها تتلمَس خصلات شعر عُمر:
أكمل وماذا بعد؟
كان الابن الأوسط للرجل المكافح بشرته سمراء اللون وشعره خشن مُجعد كما في صورة الكتاب، وحدث ما حدث يا أبي عندما نطق الُمعلم "باسم" اسمه كان يُدعى "علي"
فقاطعته الأم متساءلة:
وما الذي حدث!
نظرت جومانا إلى صديقنا "علي" وهو جالسُ بجانبي .. أتتذكرينه؟ علي السوداني
نعم تذكرته. إنه صديقك وأكمل الأب متلهفًا يقول
ثم ماذا!
طال نظر جومانا على "علي" وقالت إن الابن الأوسط يُشبه "علي" لا في الاسم فقط بل في اللون أيضًا فهو أسود اللون مثله. وتمتمة ضاحكة، فعلا صوت بعض التلاميذ وهم يضحكون أيضًا.
فتأثرت الأم وتابعت
وماذا فعل "علي" ؟
قد انجلت على تعابير وجهه الانزعاج لما قالته جومانة وفعله الأولاد وانخفضت رأسه قليلًا يأبى النظر إلى أي أحدٍ منّا.
فطبطب الأب على ابنه وقال:
أما أنت يا "عمر" ما رأيك في هذا الحدث؟
فرد الابن بعد تفكير أمهله من الوقت لحظتين
لا أعرف يا أبي ونظر إلى أمه بينما هي كانت تتفحصهُ وتتابع قوله جيدًا وأتبع
أظنُ أن جومانا خاطئة لأنها أحرجت "علي" وقالت أنه أسود البشرة، وهذا يعني أنه أقل من تلاميذ الفصل جمالًا وهذا ليس ذنبه .. وتابع يتساءل بتفوه:
لماذا خلقنا الله مختلفون في اللون والجسم وجعل أطفال أفضل من أطفال؟
أجاب الأب وهو يضع كفة يده على كتف المتساءل وقال:
أنصت إليّ يا صديقي الصغير، خلقنا الله أشكالًا وألوانًا وهذا اختلاف لابُد منه، فالحياة جميلة باختلافنا .. خلقنا الله ونحن بني آدم وفضلنا على جميع الخلائق وهُنا الفضل ليس بالأجمل شكلًا ولونا ولكن الفضل بالأخلاق، فصاحب الخُلق الكريم يكون عند الله والناس أفضل من صاحب الخُلق السيء ولو كان أجمل منه شكلًا.
وأنصت الولد وكأنه بدأ يطمئن قلبه لما سمعه وتابعت الأم بعد ان تلألأت على وجهها ابتسامة نُصح
الاختلاف شيء جميل يُسعد الناس والحياة، هكذا الحياة يا عزيزي، وكل واحدٍ منا لنا دوره، لِنُكَمل بعضُنا البعض، فلولا الاختلاف لفسدت الحياة وفسد الكون بأكمله. أفهمت ما أريد قوله؟
فهمت.
فتابع الأب:
أما دورك يا عزيزي فليكن إيجابيًا.
إيجابيًا! كيف؟
أن تساعد الآخرين في تقبل الاختلاف وأن تصلح بين المتخاصمين وتنصحُ الخاطئين وتُقوي المستضعفين.
فغشى الصمت بين الثلاث حتى تابعت الأم بكل نشاط:
آن آوان ألعاب الحاسوب، فلتذهب يا عزيزي لتلعب.
وذهب عُمر بعد أن قبلاهُ والديه بحنان على جبينه،
وفي اليوم التالي.
دخل عُمر الفصل إذ عيناه تبحث عن "علي" حتى عثُرت عليه في الركن البعيد، يمكُث وحيدًا بعيدًا عن عيون التلاميذ خائفًا مترقبًا نظراتهم إليه، ثم وقعت عيناه على "جومانا" إذ تجلس وحيدةً هي أيضًا، فاتجه إليه ووقف أمامها وقال:
صباح الخير يا جومانا.
فردت وهي تغمغم:
صباح النور يا عُمر.
أود أن أقول لكي شيئًا.
تفضل.
انظري ورائك حيث المقعد الأخير.
فالتفت ورأت ما رأى .. وقالت بنبرة حزينة وببراءة طفل صغير:
أعرف إنه "علي" حزين لما حدث مني أمس، وأنا أيضًا حزينة وأُريد أن أعتذر له.
فنظر إليها باندهاش فأكملت:
نعم، لقد سردتُ لأبي وأمي ما حدث وقد تكلموا معي كثيرًا وقررت أن أعتذر له اليوم.
وماذا تنتظرين؟
لا شيء .. هيا بنا.
وأقبلت "جومانا" بمفردها على "علي" وابتسمت وهي تقول:
صباح الخير يا زميلي.
فنظر إليه وصمت لحظات وأجاب بنبرة منخفضة:
صباح النور زميلتي.
فتابعت:
أنا آسفة للغاية لما حدث مني البارحة، كنت لا أعرف معنى الاختلاف وأريد منك السماح.
فتمتم وقد علا صوته بعض الشيء وقد ارتسمت على شفتيه البسمة:
لا بأس .. قبلتُ اعتذارك.
وإذ بحركة مفاجئة بالمكان بعد دخول المُعلم "باسم" الفصل وجلس التلاميذ يتأهبون لبدأ درسٍ جديد. وجلست "جومانا" بجوار "علي" وقد لفت انتباه المُعلم جلوس المتخاصمين أمس المتصالحين اليوم بجانب بعضهم البعض، ولكنه فَرِحَ في سريرته.
وبدأ المُعلم في إلقاء بعض الجُمل المحفزة لطلابه لبدأ درس جديد وتوقف في منتصف الفصل وأخذ رقبته تدور وعيناه تجول في عيون السامعين، وقال:
ما الدرس المستفاد من درس أمس؟ الرجل المُزارع وأولاده الثلاثة! هل أحد يتذكر؟
فرفع "عُمر" يَده بلا تردد وأجاب:
تعلمنا الكفاح، وأن الله قسم الأرزاق بين العباد، وأن الاختلاف يساعدُنا على الحياة.
ونادت جومانة أستاذها لتتكلم وقالت بتفوه يتعجبُ منه الكبار:
وليس الأفضل بالشكل واللون، إنما الفضل بالأخلاق، فالخلق الكريم يرفعُ من شأنه صاحبه والسيء يكرهه الناس ويحاسبهُ الله.
وأكمل زميلهُما "عدنان" وهو يمني نحيف العود يميل وجه إلى التجعد والبشرة الخمرية:
تعلمت أن القوي يُساعد الضعيف والضعيف قوي في أشياء أخرى.
فابتسم المُعلم وهو يصفق على يديه لهؤلاء التلاميذ الثلاثة وبدأ يوم جديد ودرس جديد.