الفسيفساء الثقافية
شاءت الإرادة الإلهية أن يخلق البشر متنوعين ومتعددين بخصائصهم الثقافية وإنتماءاتهم الفكرية ومختلفين بألوانهم وأجناسهم وأعراقهم – وهو ما يطلق عليه مصطلح التنوع و التعددية الثقافية – ولم تنم هذه الإرداة عن نزعة شر أو بدافع تحريض البشر ضد بعضهم البعض.
ونصت الأديان السماوية بشكل واضح وصريح على حقيقة مهمة جدا قد أغفلتها التربية الدينية ومناهج التعليم والثقافة الرائجة والمضامين الإعلامية وهي الحقيقة الناصعة التي لايمكن التغافل عنها أن السنن الكونية لا تكتمل إلا بالتعددية والتنوع .
أن الإختلاف فطرة الخلق وسنة من سنن الكون وهي إعتراف بالأخر وحفظ لحقوقه وحريته بالإختيار دون إعطاء لأحد الحق بإقصاء الاخر و إكراهه على إعتناق معتقد لا يؤمن به. والمتأمل في أركان الإيمان بدين الإسلام رغم بساطتها وبديهية مقاصدها يفهم أنها تعني أن الإيمان بالله مرتبط بالإيمان بكتبه ورسله بالضرورة وبسقوط الركن، يسقط البناء إلا أن المناهج التعليمية لم تشر إلى جوهر النص ولم تلامس روحه التي تسعى إلى تحقيق التوازن والحب مع أصحاب بقية الديانات السماوية بل وتربطهم بروابط وثيقة. ناهيك عن إحترام أتباع بقية المعتقدات الدينية والتأكيد على كرامة بشريتهم وحفظ وصون حقوقهم مهما كانت إنتماءاتهم الفكرية والإيديولوجية مالم يخلوا بالأمن والسلام أو يمنعوا أحدا من ممارسة عباداته.
الفجوة المعرفية هي ما تعاني منه المناهج التعليمية بكافة مواضيعها التي يفترض أن تتضمن الفكر والثقافة، فهي لا تخبرنا عن تعددية بلادنا الثقافية وتختزل هويتنا في الطائفة الكبرى وتغيب باقي طوائف المجتمع الجهل بماهية هذه المكونات لا يعني غيابها و لايسقط حقها في الظهور الإجتماعي و التعبير عن خصوصياتها التي لا نعرف عنها شيء و في أفضل الأحوال لا يصلنا عنها الا ماهو مشوه ومغلوط .
أما على صعيد الإعلام الديني، يكرس العدائية ضد الأخر ويروج للأفكار المحمومة كما في فضائيات الكراهية التي تنصب العداء بين أتباع المذاهب من الدين نفسه كما هو حاصل الأن بين المسلمين سنة وشيعة. فعلى هذه المنابر التي يقول معتليها أنها منابر رسول الله يتنابز الفريقان ويطعن كل منهما في إيمان الأخر ويكفره ويتهمه بالشرك والإبتداع والضلال والردة ويدعي لنفسه الفوز بالجنة تحت بند “الفرقة الناجية” وبين هذا وذاك تخفى النصوص الدينية الداعية للسماحة والحب ويؤول ما يمكن تأويله منها فيما يعزز نظريتهم ،وتقصى الأراء الفقهية العقلانية ويسود الفكر الظلامي المتشدد وتستمال العواطف الدينية وتشحن الأنفس بالبغضاء بدعوى الوحدة الوطنية وتحقيق مصالح الأغلبية.
الرهاب من الإختلاف حالة مرضية تسود مجتمعاتنا العربية إذ أن الإنسان العربي لم يعرف الأخر المختلف سوى منافسا له مهددا لوجوده ذلك أننا لم نألف الإعتراف بالأخر وحقه في حرية الإختيار ولم نعتاد على الحوار البناء لأجل الإثراء الحضاري والثقافي حيث كانت ولازالت المناظرات تنعقد لأجل المحاججة والتفنيد و إبطال الأراء بدلا من الحرص على التقارب في بيئة تتسم بالإيجابية والأمان.
لقد أثبتنا عجزنا على مر العصور بسبب قصور نظرتنا عن فهم الأبعاد الغنية للتنوع والتعددية الثقافية ، وأحلنا اللوحة الفسيفسائية الى معظلة غامضة يستحيل حلها على الرغم من بساطتها. لك أن تتخيل كيف للوحة فسيفسائية أن تكون بالجمال و الروعة مالم تختلف ألوان قطعها الصغيرة لتشكل منظرا خلابا. و لتتخيل كيف من الممكن أن تفهم المغزى منها إذا انتزعت بعض قطعها حتى لو كانت متناهية في الصغر!
ماذا لو تخيلنا رسمة تجسد منظرا ربيعيا بلون واحد؟ هل من الممكن أن يكون الربيع بلون واحد؟ بالطبع ستنزع الحياة من الرسمة… ماذا لو سكبنا الماء عليها؟ ستمتزج الألوان وتتداخل وتتشوه ولن نميز الألوان الأصلية!
وهو ما يحدث الأن إما بإقصاء الأقليات الإثنية وطمس هويتها أو بإخضاعها وصهرها ضمن الفئة الأكبر وتغييب حضورها الإجتماعي.
#الخطاب البديل