لهفة البدايات، وخيبات النهاية
لهفة البدايات، وخيبات النهاية
نقرأ في نظريات علم النفس التي تتحدث عن حب الاطلاع على المجهول، والرغبة الجامحة في اكتشاف المستقبل، ومعرفة أكثر الاحتمالات واقعية او خيالية التي من الممكن أن تواجهنا. ولكن كم هي عدد المرات التي توقفنا قليلاً عند نقطة البداية، أو عند النقطة الحالية التي نعيشها الأن، دون الهروب الى الامام كثيراً، ودون رسم ذاك الربيع الزاهر الذي ما أدركنا منه سوى ما يجول في خيالنا الخصب!
يحدثني صديق لي ،بعينين برّاقتين -لم أجدهما كذلك مذ عرفته قبل عشرين سنة- عن طائرٍ بجناحين من ألماس وزمرد، يحملأنه إلى ظهر غيمةٍ بيضاءَ تحمل ثلجاً دافئاًّ ينتظر أن يُضرَب بجناح الطائر كي ينزل دفئاً وسلاماً على قلوب البشرية جمعاء.
لم أفهم وقتها ما يعنيه، تحدث اليّ وما كان ينظر في عينيّ، تركزَ نظرهُ على لوحةٍ معلقة فوق رأسي. أظنه كان بعيداً عني كل البعد، ولم يكن على هذه البسيطة حينها!
اعتدت أن أسمع أصدقائي، أن ألتزم الصمت، وأن أركّز في عيونهم بينما يتكلمون. وأتجنب دوماً، أن أواجه عيون من أحدثه،هو فوبيا لقاء العيون، والخوف من الخذلان الكبير، فما وجدت خذلاناً أكبر من ذاك الذي يأتي بعد بريق عيون، ولحظات جنون!
نزل الثلج الدافئ الذي تحدث عنه صديقي، لكنه أثار سدودَ الآهات، وأغرق العيون دمعاً بعد إذ نزل بدلاً من الألفة والسلام الذي تحدث عنه على حين لهفة.
تلك هي لحظات اللهفة التي تحدث عنها، طار بعيداً على جناح من مجوهرات، وظنّ بأن تلك الغيمة لن تكون إلا سحابة عشق ستنزل عليه وعلى محبوبته أمناً وسلاماً وورود.
لم يكن لي - وقتها - أن أقاطع أحلامه، أو أن أعترض تلك اللحظات التي كان يعيشها، بل وأخذتني اللهفة بالاثم أنني لم أعطهِ النصيحة، ولم أشاركه تلك اللحظات بشيء من العقل والمنطق.
افترقا بعد أقل من سنة، وعمّ الضجيج الحي الذي سكنوه، وفاضت عيناه خيبات وحسرات على قلبٍ لم يدركه عقله قبل فوات الأوان، فهل لدقيقة أن تعود بعد أن طواها الزمن، ثم هل من عودة لميتٍ بعد الممات!
انصهار الشغف بعد البداية، والاستسلام لانطفاء اللهفة!
تفيض عيوننا فرحاً عند أي مشهد نراه فيه من المشاعر ما نحتاجه جميعاً، وتتراقص ارواحنا على سبيل اللهفة والاشتياق. لا أتحدث هنا عن عشق روح فقط، إنما من الممكن أن يكون عن وطن مفقود، عمل غير موجود، نعمة من نعم المعبود. هي تلك اللحظات التي تسبق الحصول على ما نحب، تلك الرغبة المتوحشة بأن نصل الى شيء جعلناه أكبر همنا، ومبلغ حلمنا. ولكن ماذا لو حصلنا على كل ما نبغي ولم نتغير، ثم ماذا لو تغيرنا عند إنطفاء اللهفة الأولى!!
يصعد المنحنى البياني للرغبة في الشيء قبل الحصول عليه صعوداً متسارعاً، ويبقى ثابتاً عند تملكنا ووصولنا الى مبتغانا، وما يلبث أن يبدأ بالتقهقر والهبوط بعد الحصول عليه، تلك هي القصة، والعاقل من ابتعد عن الجنوح بأفكاره حدَّ الجنون، ومن آمن بأن في الحياة محطاتٌ وسلاسلُ مختلفة، وفي كل حلقة من سلسلة من السلاسل فيها ما فيها من الخيبات والأمنيات المحققة، فلا نعظّم مرحلة، ولا نجعل من سلسة حياتنا قصيرةً محدودة بخيبة أو لهفة، فالحياة أطول مما نتخيلها زمن الخيبات، وقصيرة وقت اللهفات.
صديقي.... يا من جعلت أعباء الحياة كلها فوق رأسك وعلى كاهلك بعد أول خيبة، ويا من استسلمت وسلمت بأن حلمك طار مع الجناحين المرصعين بالذهب والحليّ، أفِقْ، وحرك نظرك يمنةً ويسرة، ابتعد قليلاً، وحرك بصيرتك وأيقظ عقلك، فالحياة أوسع ممّا تعتقد، فالكون كله لك، اضرب بعقلك وفكرك وجوانبك طول الأرض وعرضها. أبداً لا أدعوك ألا ترتشف من لهفة البدايات ما شئت وما استطعت اليه سبيلاً، ولكن كن متجهزاً لِلَكَماتٍ بعدد تلك اللحظات، وسارع إلى توصيل حبل عقلك للتخفيف من آثار كل لكمة بأن تحولها إلى درس من دروس الحياة التي ينبغي أن تعلمنا مع كل لهفة، ومن كل خيبة.