12

فقر

فقر

لطالما فُتنتُ بالمدن القديمة, وأغرقتني في تفاصيل حجارتها بحكاياتٍ عن بطولاتٍ مضت, وملاحمَ حُفرَتْ في معالمها لنعرفها, هذه المدن التي لا تشبه مدينتي حيث القتل المنهمر من السماء بصواريخ وبراميل وغازات, وحيث طُمست كل ذكرياتها ورُدمَتْ فوق رؤوس أهليها, المدن التي تتكاثر على الخارطة بامتداد الرؤى, وتخفق أعلامها في سماواتٍ نقيةٍ هادئة لا تتذكر شكل المدينة التي عفتها رغما عني, وأتيتها أنشد صَفْواً يَعمُرُ روحي المتعَبة من صخب ما جرى وما زال يجري هناك, حيث الدم يتدفق قانياً من كل شيء، من الانسان والحيوان والحجر, وحيث الحريةُ تصبح أكثر ابتعاداً مما كانتْ.

اسطنبول, الفاتح, شارع فوزي باشا، مطر تشرين وعابرون بأعراق شتى, وأنا.

أتصفّحُ المحالّ بلا هدفٍ يُذكر, وأسيرُ هادئةً ليس كعادتي إنما ذهول الطريق الذي يشبه هواؤه وطناً كلما ابتعدتُ عنه غُمِستُ فيه وابتللتْ.

وأراها, صغيرةً, بعينين زرقاوتين كحلم نهار, تبيع على أحدى المنعطفات "كلينكس", وقفت أمامها, والمارةُ العديدون يستمرون في المسير على اتجاهين, وهي تنادي للقمة عيشٍ تأملها, لم يكن ليكترث لها أحدٌ في هذا المكان المزدحم, إنما الفضول استوقفني عندها, وحين هممتُ بالمسير مجدداً رأيت شابان يخرجان لجانبها من زقاق, وبصوت سمعته :"أما زلتِ تبيعين هنا؟!", لم أخطأ أذني!

"أين والدكِ عنكِ؟ هل أعجبته الحرية التي ثار بها؟!"

فبكت بحرقةٍ تكبرُ عمرها, فيما تابع من أشعل نارها طريقهم بضحكاتٍ مستفزة.

عَدوتُ إليها, سألتها عنهم

قالت بكل حزن: حين استشهد والدي أتينا إلى هنا نرتجي أمناً ورزقاً وحياة, ولكنّ أشباه القتلةِ ليسوا فقط في أرضنا إنهم في كل مكان ...

هذه الصغيرة التي لا تشبه شكلها أبداً, فَتَقَتْ ما حِكتُهُ في قلبي لزمنٍ ونزفنا معاً.

ابتعتُ منها علبتانِ من المحارم, دسستُ واحدةً في جيبي وفتحت الأخرى لأمسح أدمعها المنهمرة, لم أكن أملك كلاماً أواسيها, فالجرح واحد, والقلب ما عاد يرتجي ألماً.

ودّعتها بغصّةٍ ومضيتُ في الطريق والكلام يصفعني:" ليس الوطن ما يؤلم إنما فقر قلوبنا فيما نصبو إليه هو الذي يُفجِع!".

#الخطاب_البديل

أسماء ياقتي

وسائط متعددة ذات صلة

لا يوجد حاليا محتويات.