52

سلام منا لنا

بالأمس قبل عشرات السنين ، كلمني صديقي لزيارة صديق لنا ؛ لأرافقه على الرغم من الجو المشحون بالعواصف وكأن الدنيا تمطر طينًا بدلا من الماء، وعلى الرغم من العلاقات المشحونة بيني وبين مديري بالعمل ،لكن تلك الشهامة المندفعة من تربية أجدادي وشوقي لصديقي القديم ولرؤية ما فعلت بملامحه السنين ، و" الصديق الصديق " تلك هي توصيات أمي لم تدعني أجب ب لا ، ولم أجب بنعم لوحدها بل قلت : رفيقي طوال سنين أيحق لي قول " لا " له "نعم نعم نعم " كررتها ثلاث مرات هكذا أذكر وأنا بتفكير عميق .

أغلق الهاتف وحل صباح اليوم التالي ، الجو سيء وشخص مثلي يعاني عقدة المطر لأسباب منذ الطفولة ترافقني ، لكن دون تفكير ارتديت ثياب ثقيلة تكفي لشخصين على جسدي ظنًا مني أن قريتهم أجواءها أسوأ من هنا ،فشخص مثلي معتاد على أجواء المدينة سيذهب لقرية لا يدري أي شيئا عن تضاريسها . ركبنا قطار متوجه لوجهة صديقي ، داخلي شعور مضطرب ، وكلما عبرنا جزء من المسافة كلما زاد اضطرابي ، هل سيصدق إحساسي كما يصدق كل مرة ؟ إلهي أرجوك !! الأصوات تتعالى ، لحظة !! لحظة !! توقف هذا القطار ما الذي حل ؟ عُطل به ، ولن يستطيع المضي " علينا النزول هنا " هذا ما قاله صديقي فتلك هي التعليمات ، نزلنا فلا حل آخر ، كان الجو سيء وحمدت اللّه في قرارة سري أنني ارتديت ملابس ثقيلة ، فعلى ما يبدو إنه الآن ستبدأ المغامرات ،كما الروايات هكذا خطر ببالي فحسب ما أراه ان الظلام سيخيم قريبا ، كل ما جال بخاطري بأن الظلام رفيقي من أول الطريق ، و لكن الفرق أن الطريق السابق كان طريقي أنا ، أنا الذي رسمته فمهما كان يشتد به الظلام كنت أعلم زقاقه و أحفظ ثناياه و خباياه فلا أضل به ، و لكنني الآن لا أعلم هذا الطريق ، لا أعلم أين أنا أو إلى أين أنا ذاهب ، و لكنني مجبر باختيار احدى تلك الطرق الاربعة التي أمامي.

كان الطريقُ وعرٌ، كاهلي لا يسنِد نفسه ،أغمضت عيناي وسلكت إحدى الطرق ، وعقلي لا يكاد يتوقف عن التفكير ، التفكير بماذا لو أنني أسير في الطريق الخطأ ؟ ماذا لو وصلت إلى نهاية هذا الطريق و لم أجد طريقي ؟! ماذا لو أن هذا الطريق هو طريقي حقا و ما كان الطريق السابق إلا وحيًا من خيالي ؟!! شعور بالخيبة يمتزج بالخوف الخيبة ، ماذا لو أن هذا طريقي أصلا ؟ لم يتغير أي شيء و لكن مرض قد أصاب عقلي ،أمسكت بيد صديقي المرتجف ، والذي لا يكف عن التذمر بأنه لو لم يقرر المجيء ، لم أكن خائفا بالمعنى الحقيقي للخوف ، وكل ما كان وسعي قوله له: ليس بوقت الخوف اقرأ ما تيسر من القرأن الكريم لعل وعسى تهدأ أو يقل خوفك ، نطقت وفمي غير قادر على الحديث بعدها نطقت بصوت غاضب : أرجوك لا أريدك أن تدلني على شيء فقط أريدك أن تشعرني أنني لست وحيدا ! فإن كان الظلام رفيقي الذي لم أختاره أودك أن تكون الشيء الوحيد الحقيقي الذي يمكنني اختياره في هذا الطريق .

 

برهة قليلة عزمنا على المشي ودون توقف أو تفكير مشينا بشجاعة الخائف من المجهول واللامألوف ، فهذه هي الشجاعه التي تربينا عليها ، لكن المجهول مطبق هنا ، وبرغم الخوف إلا اننا مشينا الا أن تعبنا وقررنا الجلوس ، أقلها إلى إن نرى جزء من الضوء في هذا المكان الشبه خالي . ما أن جاء الصباح الغير اعتيادي ، مشينا لمسافة على ما أعتقد إنها لسيت بالقليلة ، وصلنا لمكان ،وبدى لي وكأن انفجار حل بالمكان ، كان الخراب الذي رأيته اسوأ من اكبر فيلم باخراج (هيوليودي ) ،لكن حمدًا لله أننا وجدنا أناس مثلنا بالرغم من أنهم يرتدون ملابس رثة وغير سوية بباقي البشر الذي أعرف ، كم وددت بخلع ما ارتدي لألبسهم إياه ! كم وددت ! لكن ما أرتدي لا يكفي لستر الأطفال حتى ، تمنيت ودعوت الله أنني إذا كنت بحلم أن ينتهي هذا الكابوس ، لينتهي هذا الكابوس وأنني لن اعود أخاف من المطر ، سأحب عملي ومديري على رغم من كل ما حدث ، سأسصغي لأمي ولتوبيخها لي لقلة اكلي وكثرة سجائري ،سأحب جارنا ذو الصوت الخشن الذي يوقظني من نومي الغارق به ، وسأفعل الكثير .

لأن ما أمامي و كأنه هو صدمة أو عقاب رباني لكثرة شكواي وتذمري من حياتي البائسة . لا وقت للندم ، أنا الآن بحقيقه لا مفر منها ، بينما أنا أتجول بين المنازل الشبة منهارة ، وجدت منزل كان هو أقل ما حل به من كوارث ،طرقت الباب بتردد ولا اعلم هل من مجيب أم لا ؟ وهل سيسمحون لنا بالدخول ؟ هل سنعود من جديد لظلام واقعي الاول ؟ فانا لا اريد الظلام هذا فهو ليس من اختياري ، طرقت ثلاث مرات ،إلى أن فتحوا لي الباب ، فتح لي رجل يقارب لعمر والدي ،حييته بتحية الإسلام حمدًا لله قد ردني بها ، فرحت بداخلي إنه مسلم مثلي ، لكن وإن كان مسيحيًا أو يهوديًا أو بوذيًا لا يهم ، الأجدر بالاهتمام ، إنه لن يؤذي أحداُ منا الأخر ، لكن بصورة منكسره ، أدخلني منزله الذي يخلو من كل شي ،إلا من فراش شبه منتهي وأمرني وصديقي الجلوس ، فجلسنا ، "يا عم ما هذا الذي تراه عيني " "ما الذي حدث هنا " "كيف لكم بالعيش هنا " " اين السلام الذي كنت اشعر به ؟ " ابتسم لي وقال : بقايا الحروب تقصم الظهر يا ولدي ولتعلم ان الآم ما بعد الحرب تفوق الآم الحرب نفسه ، لعلك لا تدري من تحت الرفات فلذة كبدي وشريكة عمري كلاهما ذهبوا ضحية لسبب غير معروف ، لما الحروب ؟ ما الهدف منها ؟ منصب ! جاه ! مال! ام سلطه! أم تهور يضيع به آلاف الأرواح البريئة وتثكل الاف النساء به ، إنتهت الحرب ولم يعد ولدي يا بني ، ولا زوجتي إلا تعلم إن الحروب لا يعود منها سوى قادتها ، حتى القادة يلقون حتفهم أحيانا ، فالخطر يخيم ، و الحرب لا ترحم فكم من حروب فرقت قلوب واحرقت اخرى ؟! .

أتم كلامه ، وقتها فقط فهمت جميع معادلات الحياة ولم أجد مبرر لكل ما يحدث هنا وهناك ، عندها تسنى لي إنه من المحزن أنني في بلاد ينتهي بها الحرب عندما أغلق هاتفي أو أخلد للنوم ، علمت وقتها إن الحروب كالسرطان تفتتك حتى تنهي ما بدأت به، وعلمت إن الحروب جرح القلوب فبدايتي كانت بهذة الطريق المظلمة لكنها كانت بداية لتعاستي المطلقه ، و وقتها فقد نسيت ان الرجال لا تبكي ، وأجهشت بالبكاء بحرقه وكاني احمل هم العالم اجمعين بحرقه أم فاقده لأبنها . نسيت الطريق المظلم وإضاعتي لطريقي وكأن أحدهم مسح ذاكرتي ليغرس هذه اللحظات ، وتمنيت لو أن أحدهم يمحو ذاكرتي ويقول لي أنك ما زلت نائم ، وأن بلادنا العربية بسلام مطبق فلا يسلب أحد ولا يهدم بيت ، ولا يقتل أحدهم لدينه ، و لا يموت أحد من حرب ، ويعم السلام شبراً شبراً في بقاع العالم ، لكن الواقع أقسى من هذا ! ف وقتها تذكرت ما قاله كافكا : "ما كان يجب أن أملك كل هذا الوعي، طالما أنني أعيش في عالم مبني على سلام مهتريء" واخر دعواي اللهم عالم خالي من السياسة و النفاق والحروب، و مليء بالحب و السلام والتسامح ...

 

#الخطاب_البديل

وسائط متعددة ذات صلة