3382

التنمُّر-كروتين مدرسي

التنمر

 

 

 

التنمر، البلطجة، التسلط، الترهيب، الاستئساد، الاستقواء، bullying، أسماء مختلفة لظاهرة سلبية واحدة، رغم أن الجميع ترتسم في ذهنه صورة الطالب المدرسي أو الطفل الذي يتعرض للضرب أو الإسفزاز، ورغم بساطة المصطلح إلا أنه اتخذ أشكالاً وأنواعاً وحتى مفاهيم مختلفة. 

قبل أن نتكلم في موضوع التنمر يجب أن نحدد ماهيته كمصطلح عام، اذ يوصف بأنه سلوك عدواني متكرر يهدف للإضرار بشخص آخر عمداً، جسديا أو نفسيا، و يهدف إلى اكتساب السلطة على حساب شخص آخر. يمكن أن تتضمن التصرفات التي تعد تنمرا التنابز بالألقاب، أو الإساءات اللفظية أو المكتوبة، أو الإقصاء المتعمد من الأنشطة، أو من المناسبات الاجتماعية، أو الإساءة الجسدية، أو الإكراه . و يمكن أن يتصرف المتنمرون بهذه الطريقة كي يُنظر إليهم على أنهم محبوبون أو أقوياء أو قد يتم هذا من أجل لفت الانتباه. هذا ما يخص التنمر بشكل عام أما بالنسبة للتنمر المدرسي فيعتبر النرويجي دان ألويس (Dan Olweus) - الأب المؤسس للأبحاث حول التنمر في المدارس- بأنه أفعال سلبية متعمدة من جانب تلميذ أو أكثر لإلحاق الأذى بتلميذ آخر، تتم بصورة متكررة وطوال الوقت، ويمكن أن تكون هذه الأفعال السلبية بالكلمات مثل: التهديد، التوبيخ، الإغاظة والشتائم، كما يمكن أن تكون بالاحتكاك الجسدي كالضرب والدفع والركل، أو حتى بدون استخدام الكلمات أو التعرض الجسدي مثل التكشير بالوجه أو الإشارات غير اللائقة، بقصد وتعمد عزله من المجموعة.

ويضيف ألويس أنه ليس من الممكن حصول التنمر إلا إذا كانت العلاقة المدرسية بين الأشخاص علاقة غير متكافئة مادياً أو علمياً أو على سبيل قوة الشخصية. 

أما بالحديث عن أبعاد هذه الظاهرة، فإن أكثر الأشخاص يعتقد أن هناك ضحية واحدة وهو الشخص الذي يقع عليه التنمر وغالبا ما يتم التركيز عليه، لكن إذا نظرنا إلى الظاهرة من زاوية أخرى فسنجد ضحية أخرى لا يُلتَفت إليها غالبا، تتمثل في الشخص أو مجموعة الأشخاص المتنمرين الذين يتخذون صورة العنف سلوكا ثابتا في تعاملاتهم، إنهم ضحايا سوء التنشئة الأسرية والاجتماعية، و كلا الضحيتان تحتاجان للعلاج النفسي والسلوكي، فالمعتدِي والمعتدَى عليه ضحيتان أساسيتان في المجتمع، وإذا أهملنا الطفل المعتدِي ولم نقوّمه – تربوياً وسلوكياً – سنعرض أطفالا آخرين للوقوع في نفس المشكلة ، و هكذا سنساهم في انتشار الظاهرة بصورة أكبر في المجتمع.

 

بعد تعريف التنمر وتحديد أطرافه، لا بد لنا من استعراض أبعاد هذه المشكلة مبتدئين من شخصية الطفل لحظة ولادته ولحين التحاقه للمدرسة أو دخوله في دائرة التنمر، كمتنمر أو متنمَّر عليه. 

 

  يولد جميع الاطفال بشخصيات بدائية أو أساسية صافية وخالية تحتاج للتربية لتكتسب برمجتها وهذه البرمجة هي السلوكات التي يتلقاها من التربية كأدوات للتعامل مع العالم المحيط، هذه الشخصية بما تحويه من صفات، ثابتة وراسخة في نفس الطفل، ولكن هذا الثبات لا يعني بأن هذه الصفات دائمة.

 يشبه الدكتور ابراهيم الفقي في كتابه الكاريزما، بأن اللاوعي الخاص بالطفل يكون فارغاً، ويتم ملئه بما يراه من سلوكات في بيئته، كما أن كل سلوك يراه يتم تسجيله في اللاوعي ليتم التعامل معه بصيغة مشابهة لتلك التي سُجلت، مستنداً في هذا الوصف على نظرة فرويد تجاه اللاوعي. 

سأقوم بإستعراض مثالين لسلوكات أسرية قد تكون داخل منازلنا والتي قد ندفع الطفل من خلالها دون وعي ليكون ضحية سهلة للتنمر.

 

"سياسة الخوف"  

تستعمل بعض الأُسر أسلوب التخويف والتهديد في ضبط المنزل، فيلتزم الطفل بواجباته دون أن يطالِب بأي شيءٍ يخصه خوفاً من العقاب الذي تم تهديده به، على الصعيد الداخلي بالبيت لا مشكلة، لكنه وحين يخرج الى بيئة المدرسة سيقابل أشخاصاً تعلموا أن ينجزوا مهمهم بدافع المسؤولية لا الخوف، هنا نرى الطفل الخائف من كل شيء، من المكان الجديد "إذا كان صفاً جديداً أو مدرسة جديدة" ومن الطلاب ومن أن يتصرف أيَّ تصرف مخالف فقد أصبحت مشاعر الخوف تسيطر عليه وتضعف وجوده وحضوره، وسيصبح متوقعاً للعقاب كرد فعل تجاه اي تصرف يقوم به، بعكس الطالب المسؤول عن تصرُّفه، الذي يقوم بأي فعل بوثوق ودون خوف من عقاب، ومن هنا يتوفر ذاك التباين في مستويات قوة الشخصية الذي يجعل من الضعاف عرضه للتنمر. 

 

"سياسة فرض السيطرة" 

في بعض العائلات تكون السيطرة الكاملة على الأطفال الصغار هي مهمة الأخ أو الأخت الكبرى، أوامر عشوائية مجبرين على فعلها، ومبرمجين على طاعة سلطة أخرى غير الوالدين، مما يفسح المجال للطفل لأن يكون مبرمجاً على خلق سلطة تتجبر به في أي مكان يذهب إليه، مما يعرضه للتنمر ممن يعتقد هو أنهم ذو سلطة عليه، تكمن مشكلة أخرى أكبر من سابقتها إذا كان الطفل مستمتعاً ومعتاداً على أن يتم يتم التنمُّر عليه كشيء أشبه بتمتع مازوشي بالألم. 

 

كما أن بيئة المدرسة لا تخلوا أبداً من السلوكات التي تعد بدورها مشجعاً على التنمر، أو تنمراً حتى من قبل المعلم على الطالب، فأساليب العقاب التي يقوم بها المعلم بتوبيخ طالب أمام زملائه هي أكبر عامل لضعف للشخصية. 

 

"مسرحية المدرسة" 

نرى هذا المشهد في أغلب المدارس إن لم تكن جمبعها 

يخرج المعلم منهياً الحصة، يبدأ صوت تمتمات الطلاب بالارتفاع شيئاً فشيئاً. 

يقوم طالبٌ من الكرسي الأول-يسمى عادة عريف الصف- يمسك القلم ويبدأ بتسجيل اسماء الذين تعلوا أصواتهم، يأتي المعلم التالي، ويقوم بضرب أو توبيخ الطالب الذي كُتب اسمه على طرف السبورة، في محاولة منه لضبط الطلاب. 

هذا الموقف الأشبه بمسرحية يعيشها الطلاب واقعاً كلّ يوم، ورغم بساطتها الا أن عوائدها النفسية جسيمة، لأننا بذلك نفتح المجال لنشوء مجتمع طبقي مصغّر داخل الصف!. 

 مجتمع طبقي.. نعم. 

يقسم الصف لقسمين، الرافض لسلطة المعلم، و الخاضع الذي يتلقى العقاب ويقسم في نفسه ألا يعيد الكرّة، هنا يصبح هذا العريف "طاغية مصغّر" يستطيع فرض سيطرته وإنزال أي عقاب على أي طالب مستخدماً سلطة المعلم، مما يهيء بيئة خصبة لظهور التنمر والمشاكل داخل أو خارج حرم المدرسة، فتغدو مسرحية الضبط هذه كعامل تدميري لبيئة المدرسة التي يفترض أن تكون آمنة. 

لا تقتصر هذه المسرحية على تقسيم الطلاب نفسياً، بل تقسيمهم فعلياً، القسم الأول هو قسم "أصدقاء العريف" والقسم الثاني هم الثائرين، والثالث هم الهادئون الغير مستعدين لخوض أي مشكلة، وتبدأ الصراعات التي نراها كل يوم، فرض السيطرة داخل المدرسة، فرض السيطرة خارجها، ونشوء مصطلحات بين الطلاب كمصطلح "زعيم الصف" وغيرها كتعبير على الأكثر فرضاً للسيطرة والأكثر قدرة على التنمر. 

مسرحية بسيطة مدتها 10 دقائق، قد تجعل المجتمع المدرسي جحيماً، لأن هذه المسرحية باختصار تدخل الى أنفسهم وعقولهم مباشرة، ثم تنعكس على صورة سلوكات نراها في أغلب البيئات المدرسية، ولا نستطيع أن نغض البصر عنها، فأي سلوك يبدر من المعلم من شأنه أن يقسم الطلاب نفسياً وحزبياً يجب إيقافه.

 

المجتمع المدرسي هو أكثر البيئات عرضة للتنمر، لأنها نظام اجتماعي متكامل بجميع أطرافه، لذا يجب أن يكون هذا المكان آمناً وبلا أي نوع من الاضطهاد أو العنف أو التنمر المسلط على أفراده مهما كان السبب، وتقع هذه المسؤولية على عاتق الجهات المسؤولة للإنتباه لضرورة وجود مختص للصحة النفسية داخل المدرسة يعالج مشاكل الطلاب والمعلمين حتى.

 

كما ذكرنا فإن للتنمر مخاطر جسيمة على صحة ومستقبل أبناء المجتمع، وإن الوقاية من التنمر تبدأ منذ ولادة الطفل وتكاد لا تنتهي إلا عندما يصبح شاباً أو فتاة قادران على ردع محاولات التنمر على اختلافها.

 

وسائط متعددة ذات صلة

لا يوجد حاليا محتويات.